المحدث الدكتور محمد عبد الحليم النعماني الجشتي - بلال علي الأنصاري

ابن عثمان

وفقہ اللہ
رکن
المحدث الدكتور محمد عبد الحليم النعماني الجشتي -
بلال علي الأنصاري


اسمه ونسبه ونسبته:
هو المحدث الجليل والفاضل النبيل، العلامة الناقد، المحقق البارع، الشيخ الدكتور، مولانا محمد عبد الحليم بن المنشي محمد عبد الرحيم بن محمد بخش بن بَلاَقِي بن ﭼَرَاغ محمد بن هِمَّتْ، الرَاجْـﭙُـوْتِي نَسَباً، الجَيْـﭙُـوْرِي الهندي مَولِداً ومَنشَأً، الكَرَاتشْوِي مُهاجراً، الـﭽِـشْتِي مشرباً، والنُعْمَانِي – نسبةً للإمام أبي حنيفة النعمان – الحنفي مذهباً.

ميلاده وأسرته:
وُلِد 16 أبريل 1929م، الموافق ذا القعدة 1347ﻫ، في مدينة جَيْـﭙُـوْرِ رَاجِسْتهان الهند، ونشأ في بيت متواضع محباً للعلمِ ولأهله.

وكان آباءُ الشيخِ مِن مَيْوَات، هَاجَروا منها واستوطنوا جَيـﭙُـور وَبَدأُوا التجارةَ فِيه، فكان هِمَّت وابنه ﭼَرَاغ محمد يَبِيعَان الجواهرَ. وكان لجدّه محمد بخش ثلثة أَبنَاء: 1- محمد عبد الغني، 2- محمد عبد الكريم، 3- محمد عبد الرحيم، وثلث بَنات.

وكان محمد عبد الكريم حافظَ القرآنِ وَخَطَّاطاً ماهراً، انتقَلَ إلى رَحمةِ ربِّهِ 1365ﻫ ولم يعقب ولداً، وَكان لِذلك يهتمّ بِتربية أَولاَد أخَوَيه، مِنهم شيخنا النعماني.

وكان أوّلُ مَن وَجَّهَ أسرةَ الشيخِ إلى التعليمِ الدينيِ والعربيِ والدَ الشيخِ المنشي محمد عبد الرحيم، وكان كأخيه عبد الكريم خطاطاً متقناً ماهراً اشتهر في مدينته لِجُودَةِ خطّهِ وحُسنِ كِتابتِه، وكان كذلك شاعراً يُنشد الشعرَ في مَدح النبي صلّى الله عليه وسلم وثناءِه.

أعقب محمد عبدُ الرحيم رحمه الله خمسةَ أبناءٍ، اثنين منهم أكبر مِن شيخنا محمد عبد الحليم واثنَينِ مِنهم أصغر منه. وكان أكبرُهم العلامةَ الشهيرَ محققَ العصرِ ومحدّثَ الدهرِ محمد عبد الرشيد النعماني، والثاني الشيخ محمد عبد العليم الندوي رحمهما الله، درس كلاهما في دارِ العلوم ندوةِ العلماء لكهنو تحتَ رعايةِ شيخِ الحديث العلامة حيدر حسن خان الطونكي رحمه الله.

نشأته وتحصيله العلمي:
بَدَأَ الشيخُ دراستَه الابتدائيةَ في مدرسةِ تعليم الإسلام جيـﭙـور، ثمّ التَحَقَ بِدارِ العلوم ديوبند سنة 1363ﻫ، وقرأ الكتبَ الدراسيةَ وَأَخَذَ العلومَ المتعارفةَ عَن شيوخِ عَصرِه بِديوبند – وَكان دارُ العلوم آنذاك مشحونةً بالعلماء العظام، مملوءةً بالفضلاءِ الفخام، ميمونةً بيُمْنِ بَرَكَاتِ المشَايِخ الكرام – حَتى تخرَّج الشيخُ مِن الجامعة سنة 1369ﻫ.

ثم التَحَقَ بجامعةِ كَرَاتشِي وحَصَل على الماجستير بوجهٍ ممتاز في العلوم الإسلامية سنة 1967م، وكذلك حَصَلَ على الماجستير سنة 1970م في عِلمِ المكتبات، وعَلَى الدكتوراه في عِلم المكتباتِ سنة 1980م، وَكان موضوعُ مقالتِه للدَّكتُوراه تاريخَ المكتباتِ الإسلاميةِ في عصر الدولةِ العباسية، وكتابُه الذي سمّاه «اسلامى كتب خانى» (المكتبات الإسلامية) جديرٌ بحقٍ أن يُعتبر موسوعةً في عُلُومِ الكتبِ والمكتباتِ، وكثير ما سمعْنَا شيخَنا يقول: “إني صرفتُ مُعظمَ عُمري وضيّعتُ عَيني وبَصرِي في تحقيقِ هذا الكتاب”.

أما توجّهُ الشيخِ إلى علومِ الحديث، فثَمرةُ مُلازمتِه الطويلةِ مع أَخِيه العلامة محمد عبد الرشيد النعماني رحمه الله وطولِ المجالسةِ مَعَه، وَكَان أكثرُ استفادةِ الشيخ في علمِ الحديث منه.



شيوخه:
ولشيخِنا النعمانيِ شيوخٌ كثِيرُون استَفَادَ مِنهُم في أَثنَاء دراستِه في دارِ العلوم وبعدَه، مِنهم مَن دَرَسَ عندهم الكتبَ الدراسيةَ ومِنهم من أخذ عَنهُم الحديثَ أو لاَزَمَهم واستفاد منهم بَعدَمَا تفرَّغَ مِن التقرراتِ الدراسيةِ في دَارِ العلومِ. وَمِن الجديرِ بِالذكرِ هنا أَن طبيعة شيخنا في أخذ إجازة الحديث وجمع الأسانيد تُشَابِهُ طبيعةَ الشيخِ الرَبَّانِي العلامة رَشِيد أحمد الكَنْكُوهِي رحمه الله فيها، فكَان رحمه الله يُفَضِّل استخراجَ المسائلِ وَالمهماتِ مِن الحديثِ عَلَى جمعِ الأَسَانِيدِ وَالمسلسلاتِ مِن الشُيُوخِ.

فَمِن مشايخِ أُستاذِنا النعماني في الحديثِ:
(1) شيخ الإسلام، مُرشد وقتِه وفرِيد دَهرِه، العالم الرباني، الوَرع العابد، المُجاهِد الكَبِير، المحقّق المِفضَال، جَامِع الأخلاقِ الحسنةِ، المحدّث المُسند، السيد حسين أحمد المَدَنِي الفيض آبادي رحمه الله (1377ﻫ)، شيخُ الحديث وَرئيسُ الأساتذةِ بِدَارِ العلوم بِديوبند الهند.

(2) الشيخُ الجليل، العلامةُ المحقّق المتقن، المحدثُ الفقيه المفتي، قَدِير بَخْش البَدَايُوني رحمه الله (1956م)، رَئِيس التعليمِ بِمدرسةِ تعليمِ الإسلام بجيـﭙـور رَاجِسْتَهان الهند.

(3) العلامةُ الفهامة، وَحِيدُ عصرِه ومَحقّق دَهرِه، المُحدّثُ الفقيهُ، الناقد البَحَّاثَة، الأُصُولي النَظار، أخُو الشيخِ الأكبرِ، محمد عبد الرشيد النعماني رحمه الله (1419ﻫ)، صاحبُ «الإمام ابن ماجه وكتابه السنن» و«مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث» وغيرهما من التصانيفِ الممتعةِ النفيسةِ.

(4) العلامةُ الفهامة، المحدث المحقق، الرحّالُ الجوالُ، المسندُ الكبيرُ، الفقيهُ الأصولي النظار، الأديبُ الأريبُ، صاحبُ التصانيفِ الكثيرةِ، ناشرُ كتب كبارِ علماء الهندِ بِتَحقِيقَاتِه الأنيقةِ وتعليقاتِه النادرِة الرَشِيقِة، فضيلةُ الشيخِ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله (1417ﻫ).

(5) العلامةُ الشيخُ الجليل، المحدثُ البارع محمد صالح بن جِيُئو سُهتّو السِندي رحمه الله (1426ﻫ)، تلميذُ الأستاذِ العلامةُ المحققُ الشيخُ محمد عثمان القراني السندي، ينتهِي سندُه المسلسلُ بِالعلماءِ السِّنديِّين إلى الشيخِ العلامة المسندِ الفقيهِ المحقق المخدوم محمد هاشم الحارثي المطلبي الهاشمي القرشي التَتْوِي السندي (1174ﻫ) مُفتي الحنفيةِ بمكة المكرمة وصاحب التصانيف الكثيرة والثبت المشهور «إتحاف الأكابر بمرويات الشيخ عبد القادر».

(6) شيخُ الأدب، العلامةُ الكبير، الأديبُ النحرير، مولانا محمد إعزاز علي الأَمْرُوهِي رحمه الله (1374ﻫ)، درس شيخنا النعماني عنده «سنن أبي داود» وجُزء من «جامع الترمذي».

(7) الشيخ الصالح، العلامة المفضال، القاري محمد طيب القاسمي رحمه الله، درس الشيخ عنده «مشكاة المصابيح» في دارِ العلومِ بديوبند.

(8) العلامةُ اللوذعيُ، فخرُ العلماءِ، مولانا السيد فخر الحسن أحمد المرادآبادي رحمه الله، خليفةُ الشيخِ المرشدُ الشاهُ عبدُ القادرِ الرَائـﭙُورِي رحمه الله، درس شيخُنا عنده «سنن النسائي».

(9) جامعُ المعقولِ والمنقولِ، العلامةُ الشيخ محمد إبراهيم البَلْيَاوِي رحمه الله (1387ﻫ)، درس الشيخُ عنده «صحيح مسلم».

(10) الشيخُ، المحدثُ، الفقيهُ، العلامةُ عبد الخالق المُلتَانِي رحمه الله، درس عنده «مشكاة المصابيح» في دار العلوم.

(11) المحدثُ الفاضلُ، المحققُ النبيلُ، مولانا فضل الله الحيدرآبادي بن أحمد علي بن العارفِ الكبيرِ العلامة محمد علي المونـﮕيري مُؤَسِّس دار العلوم ندوة العلماء رحمه الله، وهو مؤلف «فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد»، قرأ شيخنا النعماني كتابَ «الحصن الحصين» مِن أوَّله إلى آخِرِه عليه.



أما العلماءُ الكبار الذين عَاصَرهم الشيخُ وكانت له علاقةٌ معهم أو مجالسةٌ معهم أو محضُ اللقاء، وَمِنهم من يُعدّ من طبقةٍ أعلى منه، وَمِنهم مَن يُعد من أقرانه، فهم:

(1) شيخُ الحديثِ العلامةُ الفهامةُ حيدر حسن خان الطونكي رحمه الله، فكان بينه وبين أسرة الشيخ علاقة قوية، كلّما يَمُرّ بجيـﭙور يُريدُ لكهنو يَقِفُ عند الشيخ في بيته. وكذلك كان العلماءُ الكبارُ في زمنِه يقصدون بيته للزيارة، ويجيبون دعوة والده الصالح محمد عبد الرحيم الذي كان له حُبّ بالغٌ لِلعلماء.

(2) العلامةُ المؤرخُ، الفهامةُ المحققُ، الشيخُ محمود حسن خان الطُونكِي رحمه الله، صاحبُ «معجم المصنفين» وأخُو شيخِ الحديثِ العلامة حيدر حسن خان الطونكي الكبير.

(3) الولي الزاهدُ، الورعُ التقيُ، مرشدُ العلماء، وسَيِّدُ النبلاء، الشاه عبد القادر الرَايْـﭙُوري رحمه الله تعالى رحمة واسعةً.

(4) العلامةُ المفضالُ، شارِحُ «صحيح البخاري» و«الموطأ»، المرشد الكبير، محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي رحمه الله، المعروف بشيخ الحديث في ديارنا الهندية.

(5) الداعي الكبيرُ، أميرُ جماعةِ الدعوةِ والتبليغِ، المفكرُ، المبلغُ، المحدثُ، العلامةُ محمد يوسف الكَاندهلوي رحمه الله، صاحبُ «حياة الصحابة» و«أماني الأحبار شرح شرح معاني الآثار».

(6) الشيخُ المحدث، العلامةُ الصالحُ، محمد يوسف البنوري رحمه الله، مؤسّس جامعةِ العلوم الإسلامية كراتشي، وصاحب «معارف السنن شرح جامع الترمذي».

(7) العلامةُ الشيخُ الفاضلُ، محمد صادق السندي تلميذُ شيخِ الهندِ محمود حسن الديوبندي رحمه الله، ومؤسس جامعة مظهر العلوم كراتشي.

(8) الشيخُ المجاهد الكبير، مولانا عزير ﮔُل الكَاكَاخَيلِي رحمه الله، تلميذُ شيخ الهند رحمه الله وصاحبُه في الجهادِ الوطني.

(9) الشيخُ العلامةُ، الفقيهُ المفسر، محمد شفيع العُثماني الديوبندي رحمه الله، مفتي دِيار باكستان.

(10) المحدثُ، الفقيهُ، المفسرُ، العلامةُ، الشيخ شَبير أحمد العثماني رحمه الله، صاحبُ «فتح الملهم شرح صحيح مسلم».

(11) المحققُ البارعُ، الدكتورُ الشيخُ، المفتي محمد مَظْهَر بَقَا رحمه الله، الأستاذ سابقاً بجامعة أم القرى، مكة المكرمة.

(12) مفكرُ الإسلام، الداعي الكبير, المؤرخُ الأديبُ، الأريبُ اللبيبُ، العلامةُ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، صاحبُ التصانيفِ الكثيرةِ المشهورة.

(13) الشيخُ المفتي، التقيُ النقيُ، مولانا ولي حسن خان الطُونكي رحمه الله، حفيدُ العلامةِ محمود حسن خان الطونكي رحمه الله، ورَئِيسُ دارِ الإفتاء ومُشرِف قِسم التخصص في الفقه سابقاً بجامعة العلوم الإسلامية كراتشي، وكانت بينَه وبين الشيخ النعماني علاقةٌ قوية ووُدٌّ بالغٌ، وَكَانَا يدرُسَان في نفس الزمن في دار العلوم ديوبند.

أما شيوخُه في التصوّفِ والسُلوكِ فاثنان
الأول: العلامةُ، الزاهدُ الورعُ، شيخُ الإسلام حسين أحمد المدني الـﭽِـشْتِي رحمه الله، بَايَعَ على يده المباركةِ لما تخرّج من دارِ العلوم بديوبند، ومن ثمة ألصق نسبة ” الـﭽـشتي” بآخر اسمه حباً لشيخه.

ثم لما توفي العلامةُ المدني رحمه الله أخذَ طريقَ السلوكِ وبدأ يُلازِم المرشدَ النبيل، الشيخَ الجليل، السيد أَنْوَر حُسَين نَفِيس رَقَم المعروف بـ”نفيس شاه الحسيني” أطال الله عمرَه، خليفة الشاه عبد القادر الرائـﭙوري رحمه الله، فأخذ الشيخ عنه الطيبَ الكثير، واستَفَادَ منه في الطريقةِ، والشيخُ السيد قد مَنَحَه بالخلافةِ وأَجَازَه في السلسلة الـﭽـشتية، وما زال الشيخ يُقيم في زاويتِه طِيلَةَ أيام رمضان.

ومِن فضائلِه التي خصّها الله لَه أنّ شيخَه السيد نَفِيس شَاه دامت بركاتهم يأمر الناس وينصحهم بالمبايعةِ على يدِ الشيخ النعماني في حُضورِه، ودائماً يختم مجالسَه الإصلاحية بدُعَاءِه.


وظائفه ودروسه:

انخَرَطَ شيخُنا النعماني في سِلك التدريس في علومِ الحديث بعدما كان مُناقِشاً ومُشرِفاً على الرسائل الجامعية لقِسم التخصص في الفقهِ الإسلامي بجامعة العلوم الإسلامية كراتشي سنة 1408ﻫ وبعدَما خَرَجَ أخُوه العلامة محمد عبد الرشيد النعماني مِن الجامعة المذكورة سنة 1412ﻫ، فعُيّن الشيخُ عبد الحليم أستاذاً ومشرفاً على قسم التخصص في علوم الحديث النبوي الشريف هُنالك، وهو منذ ذاك مشتغلٌ بخِدمة علوم الحديث النبوي مطالعةً وتحقيقاً وتدريساً آناء الليل وآناء النهار.

ومِن عاداتِ الشيخِ التي نشأتْ عن شغفٍ بالغٍ وحُبّ جمٍّ للكتب ومطالعتها أنه مع ضعفِ البصرِ وكِبَر السنّ – وقد وقعتْ عَلَى عَينَيه أكثرَ من أربع عمليات جراحية – ما زال يستغرق في المطالعةِ ويعكفُ على كتبه ساعاتٍ فساعات كرجلٍ مغشيٍ عليه لا يَعرِفُ ما يحدثُ حولَه ولا أمامَه، ومع قلّةِ الراتِب وضِيق الحالِ – الذي هو من شعار العلماء الربانيين – ما دام يشتري بما يحصل منه نفائس الكتب ويُضيف إلى قدر مكتبته العظيمة النفيسة.

وَ مَـن تكُ نزهتهُ قَـينَة وَ كأس تحثُّ وَ كأس تَصُب

فنُزهَـتُنَا وَ اسْـتَرَاحَـتُنَا تَلاَقِي العُيُونِ وَ دَرسُ الكُتُب[1]

وقد رأينا أن الشيخ مع كِبَر سِنّه – الذي يكاد أن يتجاوز الثمانين – وضعف بُنيانه يحضُر الجامعةَ كلَّ يومٍ من دارِه التي تقع على بُعد منها راكباً على الحافلاتِ العامةِ المزدحمةِ التي لا يكادُ يتحمّل مشقتَها شابٌّ فضلاً عن شيخٍ كبير، ولما اشتكى إليه بعضُ تلاميذِه صنيعَه واقترحوا أن يشتري سيارةً، قال: “لا حول ولا قوة إلا بالله! إن اشتريتُ سيارةً أركبها تضعُف رِجْلايا ويجمُد جَسَدِي!” وهو يخفي في قوله هذا بساطتَه وتقوَاه.

صفاته:
والشيخُ النعماني شديدُ التواضعِ، جزيلُ الحياءِ، مُنعَزِلٌ عن التكلف العادي، كثير الحب لتلامذته والزوارين عليه يعاملهم كالأبناء بل أحسن منهم، وهو حُسنُ المعاشرة للناس، يستوي عنده صغيرُهم وكبيرُهم، غنيُهم وفقيرُهم، يجلِسُ هو – نفعنا الله ببركاته – معهم لاستماعِ ما يُتلَى بين يديه ويترك مشاغله العديدة تكرمةً لهم، ويُجِيز على كل منهم، ويُظهِر السرور بهم لطفاً منه بأهل العلم وطلابه وجَبراً لخواطرِهم، ومقابلةً لحسن ظنهم وعقائدهم.

وهو عفيفُ النفس، تقيُ الباطنِ، سخيٌّ في العلم والمال، مُستغني عن الدنيا، بعيدٌ عن الحرصِ والطلبِ لها، يطرَح التكلفَ في مَلبَسِه ومَسكَنِه ومَشربِه ومَجلِسِه، حتى لا يشعُر كثير من الزائرين عليه أنه العلامة المشهور الذي يقصُده الناس للتبركِ والزيارة من نواحي البلاد.

وهو رقيقُ القلب، سريعُ الدمعة، كثيرٌ العبرة، لا يكاد يخلو يوم إلا وتراه تَفِيض عيناه من الدمع عند ذِكر كبارِ العلماء وخدماتهم العلمية المشكورة، حتى رأينا في كثير من مجالسه أنه يَنتقِدُ على إمامٍ من الأئمة في بحثٍ علمي – كما هو دأب النقاد المحققين – ، ثم يختم المجلس بالمدحِ البالغ على مَن انتُقِدَ ويُفرط الثناءَ عليه ويسرد كثيراً من فضائله وشمائله حتى يُخمَد صوتُه من كثرةِ البكاء.

وهو حاضرُ الذهن، قويُ الحجةِ، ساطعُ الدليل، حكيمٌ يضع الأمور في مواضعها، كثيرُ الحبِ للكتبِ والمكتباتِ، أكثرُ ما رأيتُ يهمّه ويُؤلمه ضياعُ العلم وغفلة الناس عن الكتب، وهو شديدُ المواظبةِ على القراءةِ والمطالعةِ والتأليفِ، لا تكاد تجد له لحظةً إلا وهو يشغلها بقراءة أوذكر أو تدريس، وقد استوعب – لحفظه الشديد على أوقاته – مطالعة عدة موسوعاتٍ عدةَ مرّات، كـ«الطبقات الكبرى» لابن سعد، و«الصبح الأعشى» للقلقشندي، و«تاريخ الإسلام» للذهبي، و«كتاب الأنساب» للسمعاني، وغيرها، فَكَم وكَم سمعتُه يقول إذا سُئِل عن كتابٍ منها: “نعم، قد طالعته أربع مرات” أو يقول: “قد قرأتُه من بِدايته إلى نهايتِهِ خمسَ مرات”!



مؤلفاته وآثاره العلمية:
من مصنّفاتِ شيخنا النعماني التي ألّفها بالعربية:

1- «البضاعة المزجاة لمن يطالع المرقاة شرح المشكاة»: وهي مقدمة عجيبة

لشرحِ الملا علي القاري على «مشكاة المصابيح» المسمّى «مرقاة المفاتيح»، تَبحَث عن حياةِ الشارح العلامةِ المحدث الفقيهِ المفسر اللغوي الأديب الملا علي القاري، وعن آثاره العلمية الخالدة، وعن الخدمات التي أدّاها العلماءُ المتأخرونُ لانتقاءِ الأحاديثِ وتبويبِها وحُسن ترتيبِها، وعن تعريفِ كتاب «مصابيح السنة» و«مشكاة المصابيح» وشروحِهما عامةً و«مرقاة المفاتيح» خاصةً.

وقد طُبعت هذه المقدمةُ المشتملة على نحو 90 صفحة أولاً مع كتاب «مرقاة المفاتيح» من المكتبةِ الإمدادية بمُلتَان، ثم طبعت ثانياً من المكتبة الحقانية بملتان، وسيصدر بعونِ الله عن قريبٍ في شكلِ كتابٍ مستقل بزياداتٍ وتصحيحاتٍ وإفاداتٍ أُخرى إن شاء الله تعالى.

2- «لمحاتٌ من تاريخِ التفقيه والفقهِ الإسلامي»: وهو كتابٌ ممتعٌ نافعٌ فريدٌ يبحث عن الفقه ونشأتِه في مرحلتِه الأُولى – زمنِ الرسالة على صاحبها الصلاة والتسليمات، والصحابة، وأتباعهم رضي الله عنهم أجمعين – ، كما يَبحَث عن كيفيةِ التربيةِ الفقهيةِ النبوية والفقهاءِ الأوليين ومِيزاتِ اختيارِهم من بقية الصحابة الأجلاء وأصولِ الانتِخَاب في إرسالِ المفتيِين إلى البلادِ وَمَا إلى ذلك مِنَ المَبَاحِث المهمةِ التاريخيةِ التي لم يسبق المؤلفَ فيها أحدٌ بهذه الهيئةِ المُرتّبة المفيدة.

وقد طبع الكتاب مقدمةً على كتاب «الجمع بين الآثار» للفاضل محمد أيوب الرشيدي تلميذِ الشيخ في نحو 50 صفحة، وبعد طبعه زاد عليه كثيراً حتى لاق أن يُطبع على حدةٍ في شكل تصنيفٍ مستقل، نسأل الله أن ييسر لنا إخراج الكتاب في أحسن الشكل وأجمل الطبع في أسرع ما يمكن لنا.

3- «مكانة الإمام محمد بن الحسن الشيباني في الحديث»: وهو كتابٌ يتضمن بإيجازٍ كلمات عن مَكانةِ الإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى الفقه والحديث بين محدثِي الحجازِ والعراقِ وفقهائِها، وانحياز جملة من المحدثين عن إيفاء حقِّه لَه، ومكانةِ مروياتِه فى ميزانِ الاعتدال، وجلالةِ شأنِه بين أئمةِ الحديث والفقهِ واللغة، وتذكرةَ أشهرِ مشايخِه وتلاميذِه وثنائهِم عليه، والدفاعَ عما تعدّى به بعضُ الناس، ومَزايا «الموطأ» بروايتِه، وسبب اشتهارِه باسمه، ومَنْزِلة «كتاب الأثار» بروايتِه بين كتبِ الحديث، وغيرَ ذلك من المباحثِ المفيدةِ والفوائدِ الفريدةِ التى تعمّ المحدثَ والفقيهَ.

وقد طُبع الكتاب مع «لمحات من تاريخ التفقيه والفقه الإسلامي» مقدمةً على كتاب «الجمع بين الآثار»، وبعدما طُبِعت المقدمةُ أَضَاف الشيخُ إليها إضافاتٍ عديدة وفوائد مفيدة، وأصلح الأخطاءَ المطبعيةَ والأغلاطَ اللغوية بَقِيتْ من غير عمدٍ فيها، فهي الآن جديرةٌ بأن تُطبع مرة أخرى في شكلِ كتابٍ مستقلٍ.

4- «الفوائد الجامعة»: وهو تعليقٌ على «العُجالة النافعة» للمُحدّث الشاه عبد العزيز الدهلوي، وهِي رسالةٌ وَجِيزةٌ فارسيةٌ تُعتبر مدخلاً حَسناً ومقدمةً جامعة في مصطلحاتِ علم الحديث، وقد اعتنى العلماءُ والمحدثون في شبهِ قارةِ الهند بمطالعتها وتذكيرِ كلماتها الموجزةِ النافعة عند إلقاء دُروسِ الحديث النبوي الشريف منذ تأليفِها، ولم يزل المصنفون يصرّحون بعباراتها الموفرة الرائعة وقت إيضاح أصول الحديث.

وقد صنّفها عمدةُ المحققين وزبدةُ المحدثين الشاه عبدُ العزيز بن الشاه ولي الله الدهلوي رحمهما الله تعالى بِاللغة الفارسيةِ التي كانت شائعةً في الديار الهندية في عصره، فترجمها شيخنا النعماني إلى اللغة الأردية الفصيحة السلسة، وأضاف إليها معلوماتٍ مهمة, وتوضيحاتٍ رائعة، وفوائدٍ نفيسة، وحواشي ممتعة، ضاعفت من قيمةِ الكتاب، والحق أن الكتاب «الفوائد الجامعة» يحسن أن يسمّى شرحاً لـ«العجالة النافعة» عوضاً عن تعليقٍ عليها فحسب لما فيه من تفصيل أنواع علوم الحديث وأقسامها، وبسطٍ في ذكر كتب الحديث وأحوالها، وما فيه من تراجم وافرة للفقهاء المشاهير، والمحدثين النحارير، وتذكرة تصانيفهم العلمية التي تسرّ اللبّ وتجلب الحبّ، ولكن بالأسف ما زالت الرسالة وتعليقات الشيخ عليها بعيدة عن استفادة العالم العربية الوسيعة لكونها باللغة الأردية، فقام بتعريبِ الكتاب أحدُ من تلامذة الشيخ، وأضاف إليه، وبدّل بعضَ ما فيه حسبما اقتضاه المقام وأوضح المرام، فجزاه الله عنا خيراً، وسيصدر هذا الكتاب بعون الله عن قريب إن شاء الله.

5- «تراجم الحفاظ المستخرج من الأنساب للسمعاني»: وهو كتابٌ نفيسٌ ألّفه العلامةُ المحدثُ محمد بن رُسْتُمْ بنِ قُبَاد الحارثي البَدَخْشِي، أحدُ البارعين في علم الحديثِ والرجالِ، مما استخرج من «كتاب الأنساب» للسمعاني من الحفاظ والأعلام مع اختصارٍ في بعض التراجم وزيادةٍ مفيدةٍ في أكثرها، فرغ من تصنيفه سنة ست وأربعين ومئةٍ وألف بمدينة دِهلِي، والكتاب لم يُطبع بعدُ، فلما حَصل الشيخ على نسخةٍ خطيةٍ له، قام بتصحيح متنِه وأضاف إليه تعليقات يسيرة مفيدة، والكتاب في المرحلةِ الطباعية وسيصدر عن قريب إن شاء الله.

6- «الإعلام لمن وُرد في سلاسل الشيخ إمداد الله التهانوي المكي من المشايخ الأعلام»: وهي ترجمةُ كتابِ «ضياء القلوب» ثَبَتُ المرشدِ الكبير، أستاذ العلماء، وقُدوة الصلحاء، الشيخ إمداد الله التهانوي ثم المكي رحمه الله، تَرَجَمَه الشيخ محمد حسن الإله آبادي رحمه الله من الفارسيةِ إلى العربية، وهو كتاب رفيعٌ نادرٌ، قام الشيخ بتصحيح عباراتِه وتعليقٍ يسيرٍ على متنِه حيث احتيج إليه. والكتاب ما زال مخطوطاً، نسأل الله أن ييسّرنا إخراجَ الكتاب في أنضر طباعة وأحسنِ صورة.

7- «الإمامُ البخاري بين الإفراطِ والتفريط»: .

أما كتبه التي صنّفها بالأردوية فكثيرةٌ، منها:
1- حيات وحيد الزمان

2- اسلامى كتب خانى

3- دورِ جاهلي مين عربون كى كتب خانى.

4- سيد أحمد شهيد كى اردو تصانيف و اردو ادب ﭘـر ان كا اثر اور ان كا فقهى مسلك.

5- ترتيب مشارق الأنوار على أبواب فقهية.

6- نصيحة المسلمين لخرم علي البَلهُورِي، صاحب «غاية الأوطار» ترجمة الدر المختار وأحد خلفاء السيد أحمد شهيد رحمه الله (تحشية).

7- ﭼـهل حديث شاه ولي الله محدث دهلوى.

8- الإتقان في علوم القرآن (مقدمة وتصحيح الترجمة).

9- مقدمه مسند أبو داود الطيالسي.

10- فوائد جامعه بر عجاله نافعه.

11- تذكره علامه جلال الدين سيوطى.

12- زاد المتقين في سلوك طريق اليقين للعلامة عبد الحق المحدث الدهلوي (ترجمة من الفارسي إلى الأردوية وتحشية).

13- امام محمد شيباني بحيثيت راوى كتاب الآثار امام أعظم أبو حنيفة وموطأ امام مالك حقائق اور ازاله شكوك و شبهات.

14- تنقيد في التقليد لمولانا سديد الدين بن رشيد الدين الدهلوي. (تسهيل العبارة وتصحيح المتن)

15- شيخ الاسلام حضرت مولانا حسين أحمد مدني كى سند حديث اور شيوخ سند اور علمى دنيا ﭘر ان كى روشن نقوش.

وللشيخِ غير هذه الكتب مقالاتٌ وبحوثٌ ورسَائل لا تُحصى، كَتَبَها في علومٍ شتى وموضوعاتٍ مختلفة بالأردية، وطُبِعت في المجلات العلمية العديدة في الهند وباكستان، أكثرها في سِيَر القدماءِ من المحدثين والفقهاء، وينبغي لأحدٍ جمعُها وطباعتُها لتعمّ بها الفائدة وينتفع بها أهل العلم.

وهذا ما كان من خلاصة ترجمته الجليلة، ولو أردنا بسطها لكلّتْ الأقلام عنها وضاقت الصُّحُف، ولكن فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله، نسأله تعالى ذكرُه أن يُطِيل عمرَه ويُدِيم النفعَ به وعلومِه. آمين.
 
Top